منتديات تو زوو متخصصون في عالم الحيوان وتربية
المخلوقات الجميلة ويضم منتدانا أكبر وأروع تجمع لهواة تربية الحيوانات والطيور
والأسماك والأحياء المائية والزواحف والبرمائيات ولمتابعي تحركات الحشرات
والمفصليات ولمحبي الزراعة والعناية بالنباتات كما نوفر لكم من خلال سوق تو زوو
الالكتروني الكبير عرض سلعكم بالمجان وبعد ذلك كله تستريحون في استراحة الهواة
متمنين لكم طيب الاقامة لدينا
كانت هذه المستشفى باختصار شديد صورة مصغرة من عالمنا الكبير و كان هذا بالنسبة لي فرصة ذهبية لدراسة أفضل الطرق للتعامل مع شتى الاتجاهات و الميول الفكرية و محاولة صهرها في بوتقة الفكر الإسلامي الصحيح. كان تحدي عملاق لكني أقبلت عليه بنفس راضية فخرجت بتجربة عميقة تستحق أن أخطها الآن بيدي و أن أتلوها على مسامعكم.
كان الاستيقاظ بعد رحلة السفر الشاق التي قطعتها أشبه بإزالة جبل من موضعه , لكن سبحان الذي يبعث الموتى يوم النشور فقد استيقظت مع آذان الفجر و لم يكن من السهل علي أن أغادر منزل خالي لأني لم أتعرف بعد على إحداثيات المكان لذا فضلت أن أصلي في البيت و بعد أن انتهيت من الصلاة قمت بتجهيز أوراقي بشكل منظم و انتظرت حتى استيقظ خالي لصلاة الفجر هو الآخر ثم تحدثت معه حول المستشفى قليلا و عن مكان الإدارة و الصيدلية , نسيت أن أعرفكم بخالي لذا أرجو أن تسمحوا لي بإلقاء الضوء عليه قليلا فهو أحد أبطال هذه الذكريات بل في الحقيقة هو محور رئيسي في هذه الذكريات فقد جعله الله سببا في تواجدي في هذا المكان هذا بالإضافة لتوجهاته الفكرية الخاصة التي طالما كانت السبب في مناقشات لطيفة بيننا تستغرق ليالي طويلة للغاية لا تخلو من شد و جذب و طرافة أيضا , خالي اسمه عادل و هو العين الأولى فكل أخوته و أخواته بما فيهم أمي تبدأ أسمائهم بحرف العين فكان هو أول عين في أخوته كلهم . دكتور عادل استشاري جراحة و هو يعمل في السعودية منذ 25 عام تقريبا و هو الآن يحتل منصب رئيس قسم الطوارئ بمستشفى الملك فهد التخصصي و هو رجل عصامي بكل ما تحمله الكلمة من معنى عنده دأب و صبر رهيب و حب للعلم و لقد شاهدته كثيرا ينام أثناء المذاكرة من شدة الإرهاق , عنده قدر كبير من الحزم و الصرامة في العمل و هو يعشق تطبيق النظام و أول ما يبدأ به هو نفسه شخصيا فهو غالبا ما يصل القسم قبل كل الناس و كثير ما يكون آخر المغادرين , أما من ناحية التوجه الفكري فخالي و الحمد لله إنسان ملتزم و هو يميل لفكر المدرسة العقلية المعاصرة لذا تجد مكتبته تحوي غالب كتب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله و كانت تدور بيننا نقاشات كثيرة حول هذه المدرسة - التي أختلف معها مع احترامي الشديد لجميع العاملين لدين الله - ليس المجال الآن لذكرها , عامة هذه ملامح رئيسية لشخصية هذا الرجل الذي أدين له بالفضل في كثير من الأشياء و سوف يتضح للقارئ الكريم مع القراءة تفاصيل أخرى كثيرة .
في حوالي الساعة التاسعة صباحا غادرت باب الشقة التي يقطنها خالي لأتجول في طرقات السكن و المستشفى للمرة الأولى و سوف أحاول أن أنقل لكم تفاصيل المكان قدر المستطاع. مستشفى الملك فهد التخصصي هي أكبر مستشفى في منطقة القصيم تليها مستشفى الملك سعود بعنيزه و هي واحدة من عدة مستشفيات كبرى بنيت في عدد كبير من مدن المملكة و قد قام ببناء هذه المستشفيات شركة فرنسية و هذه المستشفيات تتشابه تقريا في شكلها الخارجي و أذكر على سبيل المثال مستشفى النور بمكة و الملك فهد في المدينة المنورة و سوف أبدأ بوصف سكن المستشفى و هو عبارة عن وحدات و هي على شكل حرف (L) أو حرف (u) و يتكون المبنى من ثلاث طوابق في كل طابق حوالي 10 أو 15 شقة على حسب شكل المبنى و هناك فيلات و هذه خاصة في الأصل برؤساء الأقسام و كبار الشخصيات مثل مدير الشئون الصحية و هذا لا يعني عدم وجود تجاوزات فكثير ممن يقطنون السكن لا يستحقون الوجود فيه أصلا لكن الواسطة إضافة لسياسة خاصة في السكن تتعلق بوجود توازن بين الجنسيات المختلفة و للآسف هذه السياسة أفسدت كثيرا و سوف ترون معي هذا لاحقا عند حديثي عن تجربتي مع أطفال السكن . أرى أن الوحدات السكنية كانت لطيفة فالشقة عبارة عن غرفتان و صالة جيدة بالإضافة لمطبخ و حمامان أحدهما كبير و الأخر صغير يستثنى من ذلك مبنى رقم خمسة الذي كان يقطنه خالي فالشقة فيها ثلاث غرف و كان هذا المبنى مخصص لأصحاب الرواتب المرتفعة و رؤساء الأقسام الذين لا يقطنون الفيلات. أما الفيلات فقد دخلتها مرة واحدة فقط قبل عودتي بحوالي ثلاث شهور بدعوة خاصة من مدير الشئون الصحية و هو شخص ملتزم و لطيف للغاية لذا لا أستطيع أن أصف الفيلا تفصيليا من الداخل لكن من الواضح أنها سكن غير تقليدي بالمرة . يوجد أيضا سكن خاص الممرضات و الطبيبات غير المتزوجات يستثنى من ذلك الأخصائيات و الاستشاريات لأن هذا السكن الخاص بالممرضات كان بسيط , و لا يسمح للرجال بدخول هذا السكن أبدا كما أن النساء لا تغادره إلا للعمل أو بإذن خاص , يوجد مبنى خاص بالعائلات و هو مبنى 14 لكنه متواضع و يقطنه ذوي الرواتب المنخفضة وغالبا يكون بواسطة و قد سكنت فيه فترة عندما جاءت و والدتي لزيارتي , أما العزاب من أمثالي فلنا سكن خاص خارج المستشفى تماما على بعد 10 دقائق سيرا على الأقدام و هناك سكن أيضا للعزاب من الشخصيات ذات الحظوة يقع داخل المستشفى فوق أحد المباني الإدارية و أهم ما يميزه أنه داخل المستشفى نفسها و قد استطاع خالي بفضل الله أن يجد طريق لأقطن هذا السكن و هو على صغره كان أفضل حالا من سكن العزاب الذي حوله الشباب هناك إلى مقلب زبالة.
تمتاز المنطقة السكنية بضخامة مساحتها و انتشار و سائل الترفيه فهناك ملعب كرة جيد و حمام سباحة مغلق رائع يعمل طوال الصيف و الشتاء و قد تعلمت السباحة هناك , أضف إلى ذلك صالة ألعاب (جيم) و قاعة النادي الترفيهي و فيها طاولات بيلياردو و بينج بونج و أخيرا قاعة ضخمة للاحتفالات و المناسبات أنشئها خالي. أما المستشفى نفسها فهي عبارة عن مبنى ضخم للغاية مكون من ثلاث طوابق و فيه جميع التخصصات تقريبا و يوجد عدة مراكز طبية كمباني منفصلة تحيط بالمستشفى مثل مركز الأمير سلطان للقلب و مركز الأورام و الغدد الصماء و السكر و عيادة الخصوبة و مركز الأسنان العملاق و مبنى منفصل للعيادات الخارجية . المستشفى و السكن يخضعان لنظام التكييف المركزي و هو رائع بشكل كبير و يضمن كفاءة طوال العام دون مشاكل غالبا. تدار المستشفيات في المملكة العربية السعودية - و أقصد بالطبع التابعة لوزارة الصحة - بثلاث أنظمة و هي على الترتيب أن يكون الموظف تابع لوزارة الصحة و هو الغالب أو أن يكون تابع لما يسمى بالتشغيل الذاتي و هو نظام خاص بالوزارة له مميزات و عيوب فهو أشبه بالقطاع الخاص من حيث طريقة التعاقد و الرواتب و هو بالطبع أكثر مرونة من الوزارة لكنه ليس مستقرا بالدرجة الكافية و أخيرا نظام شركات التشغيل و هذه الشركات تعد وسيط بين الوزارة و الموظف و هي تتكفل بالإدارة الطبية و استقدام العاملين و في المقابل تحصل على جزء من راتب الموظف و كنت أنا تابع لهذا النظام الأخير فقد كان كفيلي طوال فترة عملي أحد شركات التشغيل و مستشفى الملك فهد و هذا أمر نادر كان فيها الأنظمة الثلاثة فمركز الأمير سلطان كان يدار بالتشغيل الذاتي و باقي المستشفى كان قسمة بين الوزارة و الشركة و قد ولد هذا شعور بالظلم لدى العديد لأنه الفارق في الرواتب و المميزات كان ضخم للغاية بين الأنظمة الثلاثة و أقلها كان الشركة. سوف أتوقف اليوم عند هذا الحد فقد أطلنا للغاية و كنت أريد أن أصحبكم إلى الصيدلية كما وعدتكم لأصف لكم أول مقابلة دارت بيني و مديرها أبو صالح لكني فضلت أن أؤجل هذا لوقت لاحق حتى لا تملوا.
من الآن فصاعدا أيها الحبيب سوف أصحبك بإذن الله في رحلة أرجو أن تكون ماتعة و سوف يكون شعار فيها (( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)) و مع هذا القبس الكريم من كلام المولى الحكيم يجب أن نتذكر سنة الاختلاف التي أجراها الله بين عباده بل إن الله قد جعل هذا الاختلاف سببا للخلق كما قال في كتابه ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)), و الواقع أنني و منذ هذه اللحظة سوف أحاول جاهدا أيها الكريم أن أنقل لك حقيقة التجربة التي عشتها بالفعل.
فالأمر ليس كما يظن البعض أنني شخص يروي أحداث و ذكريات مرت به لكنه أعمق من ذلك بكثير فقد كرست هذه الحقبة التي عشتها هناك للدراسة و التحليل و لا يعني هذا أنني عالم من علماء الاجتماع أو أنني أحد المصلحين الأفذاذ لكن الله سبحانه و تعالى أنعم علي بموهبة التحليل و محاولة سبر أغوار المحيطين و قد ذكرت من قبل أنني لم أكن أرغب في السفر حقيقة لكنني و لظروف كثيرة كان يجب أن أسافر لذا فقد قررت و منذ اللحظة الأولى أن يكون لهذا السفر فائدة أكبر من مجرد البحث عن عائد مادي بل أردت أن أخرج من هذه التجربة الثرية بما هو أكبر و أنفع , و أهم من ذلك كله أن يكون أبقى من المال و لا أدري هل حصلت على بغيتي تلك لكنني على الأقل استفدت تجربة إنسانية غاية في الندرة تعود لعدة أسباب منها صغر سني فقد كنت أصغر شخص تم تعينه في الكادر الطبي في المستشفى و قد مكنني هذا من التعامل مع كافة المراحل العمرية المختلفة دون أدنى صعوبة أضف لذلك الحيوية و الانطلاق التي أتمتع بها وهذه الصفة جعلت العديد من الأطباء و الطبيبات يعتمدون علي في أمور تصعب عليهم نظرا لظروف العمل و سوف يبين لنا كيف استطعت أن أستغل هذه الأمور لكسب قلوب الناس . و من الأشياء التي تعلمتها هناك فن التواصل مع الآخرين بمنظور إسلامي فللآسف الكثير منا يظن خاطئا أن مهارات الاتصال و طرق كسب الأصدقاء وتملك مشعار الآخرين و التأثير فيهم إنما هي صناعة غربية خالصة لا يوجد لها مثيل في تاريخنا و لا حضارتنا الإسلامية فأقول أنني لا أنكر أبدا على هؤلاء سبقهم في جمع هذه المهارات و ترتيبها و إعطائها الشكل الأكاديمي لكن يظل المعين النبوي المطهر لا ينضب أبدا و إن مجرد قراءة السيرة النبوية - على صاحبها أفضل صلاة و سلام - بنوع من الاهتمام كفيل بإعطائك صورة من أرقى الصور الحضارية في كيفية التعامل مع الآخرين على اختلاف مشاربهم و أتمنى لو استطاع أحد الباحثين أن يعمد إلى كتب السيرة فيستخرج منها هذه الكنوز التي تزخر بها كتب السير و الحديث النبوي الشريف لكنها تحتاج لشئ من الترتيب و التنسيق و إنها كفيلة في رأي لجعل أكبر محاضري هذه العلوم الإنسانية يغفر فاه دهشة لما صدر من الرسول صلى الله عليه و سلم في شتى المواقف الحياتية الإنسانية و هو الرجل العربي الذي نشأ و تربى في البادية و لم يحضر قط محاضرات أو قرأ حتى حرفا واجدا في كتب الاجتماع و التمنية البشرية فمن علمه هذا ؟ فتجد الإجابة كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الرسول الأمين (( كان خلقه القرآن )) .
أعود فأقول إن من أمتع ما مر بي في هذه التجربة هي النظر إلى البشر بعين الدارس و مطالعة اهتماماتهم و أثر البيئات المختلفة في نشأة الأفراد و سلوكهم و كيف استطاع الإسلام أن يجمع كل هذه الأقطاب المتنافرة و بالطبع لا يمكن أن نتكلم عن هذه الإعجاز دون ذكر مصدر الإعجاز الفريد الذي تركه الملك سبحانه و تعالى بين أيدينا و هو كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه , إن هذا القرآن له أثر عجيب على النفوس حتى الأعاجم فلقد رأيت كثيرا أناس يخشعون مع كلام الله من جنسيات مختلفة و هم لا يفقهون حرفا واحدا منه فسبحان الذي لو أنزل كلامه على جبل أصم لتصدع من خشية الله . كانت كل هذه الأفكار تدور بذهني و أنا أخطو خطواتي الأولى داخل المستشفى كنت أحدث نفسي فأقول أنني لم أخلق عبثا و لا يمكن أن يكون وجودي هنا مجرد مصادفة عابرة بل هناك غرض أكبر و أسمى من مجرد البحث عن المال , كان علي أن أفهم طبيعة الأسباب التي شاء الله أن يسوقني إلى هذا المكان من أجلها أو على الأقل أفهم قدر منها و لو ضئيل ,و لعل هذا ما حدث فقد اكتشفت مع مرور الوقت أنها لم تكن أبدا تجربة عادية لشخص مثلي لقد كانت اختبار حقيقي لثبات المبادئ أمام جميع المغريات المختلفة و دليل دامغ على فاعلية المنهج الإسلامي في كل مكان و زمان و ربما تكون تجربتي خاصة مع الأطفال دليل على ذلك.
كنا قد توقنا بعد مغادرتي لسكن خالي الخاص متوجها نحو الإدارة لأكمل أوراقي و بعد أن قابلت الأستاذ (أبو خالد) مدير شئون الموظفين في الشركة, الأستاذ (أبو خالد) سوداني الجنسية و هو شخص لطيف للغاية حلو المعشر و كان على علاقة طيبة بخالي و هو من سعى حثيثا لإتمام أوراقي في الأصل و قد كان حقا نعم العون و لا يضيره أبدا حبه لمساعدة بني جلدته و هذا كان من المأخذ عليه و إن كنت أرى أن كان يفعل هذا لكن ليس على حساب أحد أضف لذلك أن إدارة المستشفى الأولى- فقد تغيرت الإدارة لاحقا – كانت حريصة على سياسة فرق تسد و هذا بإعطاء كل جنسية ميزة عن الأخرى حتى لا تسود جنسية بعينها في المكان و قد أدى هذا لخلق نوع من العداء و البغضاء و إن كانت خفية بين شتى الجنسيات حتى على مستوى الأطفال !! . بعدها ذهبت مباشرة إلى الصيدلية و قد بحثت كثيرا حتى عثرت عليها فالمستشفى ضخم للغاية و بها العديد من الممرات أضف لهذا وجود عدة صيدليات في المستشفى و سوف أتكلم عن هذا بالتفصيل بإذن الله في المرة القادمة . عندما وصلت للصيدلية وجدت بابها مغلق و له كلمة سر فتوجهت نحو شباك الصرف فوجدت مجموعة كبيرة من الأشخاص يقومون بصرف الدواء عبر شبابيك الصرف المختلفة و كانوا جميعا تقريبا يرتدون الزى الوطني السعودي و مجموعة قليلة من جنسيات أخرى ترتدي البالطو اقتربت من الشباك و تحدثت إلى أحدهم و كان يرتدي ملابس عادية فأخبرته أنني الصيدلي الجديد فأبتسم بشدة و أظهر تعبير لن أنساه أبدا و وجدته يهتف (( أخيرا أنت فين من زمان ترا منتظرينك من شهور تفضل بالدخول )) . دخلت من الباب و تعرفت عليه كان هو المدير المسئول عن منطقة الصرف و اسمه خالد المطيري و هو الآن يكمل دراسته العليا في استراليا و لقد توثقت بيني و بينه أواصر الصداقة لاحقا. قام خالد بتعريفي إلى جميع المتواجدين و غالبهم من السعوديين هذا بالإضافة إلى مجموعة من الصيادلة الهنود و الباكستانيين أي أنني كنت العربي الوحيد بينهم على الأقل من الرجال.
قام خالد بإدخال أوراقي للمدير و طلب مني لانتظار قليلا حتى يطلبني الدكتور أبو صالح مدير الصيدلية و كان أبو صالح يقلب أوراقي و أنا أتابعه من الخارج فقد كان جدار غرفته من الزجاج و قد تشجعت منذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها الرجل فهو يشبه بقدر عجيب الداعية المشهور محمد العريفي حتى في طريقة اللباس و الابتسامة . لم تمضي سوى دقائق معدودة حتى أذن لي أبو صالح في الدخول قمت فطرقت الباب ثم دخلت و في الداخل دار اللقاء الأول بيني وبين هذا الرجل اللغز و سوف أسرده لك المرة القادمة فلا تيأس بإذن الله .
سبحان الله ستظل شخصية هذا الرجل لغز بالنسبة لي حتى مشاعري تجاهه حتى اللحظة الأخيرة ظلت متضاربة. لا أنكر أنه ساعدني كثيرا و إنه كان يرغب في بقائي و عدم سفري و كان الجميع في الصيدلية يرى أنني مقرب منه للغاية لكن ...
لم أتوقع أن تكون مقابلتي مع أبو صالح مقابلة بالمعنى المعروف بل ظننت الأمر مجرد تعارف بسيط فقد أبرمت العقد بالفعل مع الشركة و أنا الآن داخل المملكة لذا فلم أكن مستعد لإجراء مقابلة بالمعنى المفهوم. أبو صالح له صوت عميق و نظرات أشد عمقا و هو غالبا مبتسم و أبو صالح رجل من طراز خاص تخافه و تحبه و لا تستطيع أن تعرف ما يدور بداخله بالضبط و سوف أسرد لكم بعض سماته الشخصية و منها أنه طالب علم شرعي متقدم و له أبحاث في مجال دراسة و تحقيق الحديث النبوي و قد كان هذا لأمر أحد المداخل للتعامل مع الرجل و هو صيدلي متميز من الجانب العلمي و ليس العملي و أقصد هنا الجانب الإداري مع احترامي الشديد له فقد كانت الصيدلية تدار بطريقة عشوائية ليس هناك ضابط أو رابط و من المواقف الظريفة التي لا أنساها أن زملائي في الصيدلية أقاموا لي حفل ضخم في الطابق العلوي قبل رحيلي بفترة قصيرة و كانت هناك قاعة للرجال و قاعة للنساء حيث جلست أمي مع النساء ,فعدد العاملين بالصيدلية من صيادلة و فنيين كان حوالي خمسين فرد المهم أنني نزلت للطابق الأسفل حيث تقع الصيدلية الرئيسية ففوجئت أن الجميع قد ترك الصيدلية فصارت خالية فالكل جاء ليحضر الحفلة و وجدت نفسي وحيدا في مواجهة المراجعين الحانقين و لك أن تقدر مشاعرهم عندما يأتوا لصيدلية فيها الأقل حوالي عشرون موظف فلا يجدوا أحدا البتة و ما هذا إلا مثال بسيط على سوء الإدارة !!
نعود للمدير فنجده رجل متقلب المزاج فلا تعرف هل هو عادل أم لا خاصة في قراراته الخاصة بالأجانب و في المناصب التي كانت تمنح لأشخاص دون وجه حق و في المقابل كان يسمح لي بكثير من الأشياء لم تعطى لا أحد من قبلي حتى من أبناء البلد كما كانوا يطلقون على أنفسهم باختصار شديد لم أستطع أن أحلل شخصيته و لكني أحببته في الجملة . أجرى معي أبو صالح مقابلة لم تكن جيدة بالمرة و قد تلعثمت و ترددت و تصببت عرقا ثم وعدته بأن أقوم بمراجعة مادة الفارماكولوجي ( و هي تعد العامود الفقري لأي صيدلي ) في أسرع وقت على أن يجري لي مقابلة أخرى فأخبرني أنه لا داعي لهذا فهناك امتحان للقسم شهريا للوقوف على مستوى العاملين و سوف يتعرف على مستواي من خلاله – اكتشفت لاحقا أن هذا الامتحان خاصة في قسمنا الكريم لا وزن له – سعدت لهذا الخبر و وعدته بالارتقاء بمستواي سريعا . قام أبو صالح بوضعي تحت الاختيار لمدة ثلاث أشهر و هو إجراء روتيني و في هذه الفترة كان غالب تدريبي في صيدلية المرضى المنومين و لعل هذه تكون فرصة طيبة لأصف سريعا الصيدليات الموجودة بالمستشفى. أولا هناك الصيدلية الرئيسية و هي مسئولة عن صرف الأدوية الخاصة بغالب العيادات و أيضا قسم الطوارئ و العاملين بهذا المكان كانوا جميعا من الرجال – عدا الفترات المسائية فيوجد بها نساء أحيانا - كان هناك حوالي 15 موظف سعودي و 10 من الأجانب و هؤلاء الأجانب كانوا جميعا هنود باستثناء موظفان باكستانيان و بنغالي و مصري و هو أنا و هذه الصيدلية ضخمة للغاية و يوجد بها مكتب مدير الصيدلية و كنا نحن أصحاب النصيب الأكبر من المشاكل وهذا لسببان الأول سوء التنظيم و الإدارة و هروب كثير من الموظفين أثناء اليوم فقد كنا أشبه بمولد ليس له صاحب و على صعيد أخر كان عدد المرضى يوما ضخم للغاية و تحضير الأدوية و تسجيلها على جهاز الحاسب الآلي يستغرق وقت طويل. أما الصيدلية الثانية التابعة لنا فكانت صيدلية العيادات الخارجية و هي تخدم مبنى العيادات الخارجية و هي صيدلية نسائية خالصة عدا مديرها فقد كان موظف سعودي ثم أخيرا صيدلية المرضى المنومين و هذه كانت تخدم مرضى الأقسام الداخلية و هي مختلطة نوعا ما فيوجد بها رجال و نساء لأن عدد النساء قليل و هي تحتاج لعدد أفراد أكبر.
كان المشرف الرئيسي علي هو ريس , و ريس الحق هو أحد الصيادلة الهنود الذين يقومون بمهام إشرافية داخل الصيدلية و قد أسند مهمة تدريبي الخاصة بصيدلية المرضى المنومين لأم أحمد و هي من أقدم من عملوا بالصيدلية و تعد من أشهر الشخصيات في المستشفى فهي تعرف تقريبا جميع الممرضات و العاملات. كان التحدي الأول الذي واجهني في هذا المكان كيف تكسب ود المحيطين دون أن تتخلى عن مبادئك و دون أن تميع دينك و الحقيقة الأمر لم يكن سهل فأنا و كما أخبرتكم سابقا أول مصري ذكر يحط بقدمه في الصيدلية منذ ما يقرب من عشر سنوات حيث عمل قديما صيدلي و زوجته في هذا المكان أي أنه على مدار 20 عام من فتح هذه الصيدلية لم يعمل بها سوى مصريان فقط ( أقصد رجال فهناك عديد من النساء المصريات عملوا بالمكان )!!, و لم تكن فكرة الطاقم الموجود عن المصريين جيدة أبدا لأسباب كثيرة منها أن العديد من المصريات رفضن استلام العمل في الفترة المسائية التي تبدأ من منتصف الليل إلا الساعة سابعة صباحا تقريبا و لهذا كان أبو صالح كما أخبرني هو بنفسه يكره وجود مصريين في المكان و التحدي الأخر الذي واجهني هو اختلاف ألسنة القوم و بيئاتهم و أفكارهم و أخطر من ذلك وجود نصارى في المكان بعضهم من المتشددين فكان معنا قس نيجيري و هو المسئول عن غرفة المحاليل و أخر هندي و هو أكبر شخصية علمية في القسم و يعد المصدر الرئيسي للمعلومات في الصيدلية و قد دهشت كثيرا لوجود مثل هذا العدد من النصارى داخل المستشفى و عدم إقبالهم على الإسلام على الرغم من المجهود المضني الذي يبذله العاملون بتوعية الجاليات لكني اكتشفت لاحقا أن الأمر أكبر من ذلك فالمشكلة التي تواجه الإسلام الآن ليس ضعف المنهج عياذ بالله فهو منهج رباني أصيل محفوظ من قبل رب العالمين و هو كافي بمحو أي منهج أخر من صنع البشر بما فيها الديانات المحرفة التي يتبعها أصحابها دون أي تعقل لكن المشكلة الحقيقية تكمن في المسلمين أنفسهم فهؤلاء هم النموذج الذي تراه العين و كما قال الشاعر
و فعل رجل في ألف رجل .......خير من قول ألف رجل في رجل
لذا فإننا مهما بلغنا من القوة و الحجة في الإقناع و البيان فأننا لا نستطيع أن نؤثر في من حولنا إلا إذا صرنا نحن واقع حي يمشي بين الناس كما كان النبي صلى الله عليه و سلم وصحبه الكرام .
لعل هذه النقطة الأخيرة تكون منطلق لحديث جديد و هي أشبه بزفرات مهموم قرر أن يسلك طريق العمل لدين الله فوجد الأمر شائك و الطريق طويل و الكارثة التي حلت بالإسلام للآسف على أيدي أهله تحتاج لسنوات من الإصلاح و لعل أكبر هذه الكوارث هو اختزال الإسلام في مظاهر شكلية و تعبدية و إهمال و هذه أمور شخصية بحتة و الله أعلم بسريرة فاعلها لكن المنهج الإسلامي أرقى من ذلك و أعمق فهو منهج حياة متكامل يبدأ بدخول المرحاض أعاذنا الله و يرتقي في شتى مناحي الحياة حتى يصل إلى القمة في العلاقات الإنسانية من حيث تنظيمها و تشكيلها بما يتناسب مع الفطر السوية فيخرج لنا أفضل و أرقى الصور الحضارية التي يجب أن يكون عليها الإنسان و خلاصة القول حتى نلتقي مرة أخرى أن الدين ليس لحية و نقاب .
لذا فإننا مهما بلغنا من القوة و الحجة في الإقناع و البيان فأننا لا نستطيع أن نؤثر في من حولنا إلا إذا صرنا نحن واقع حي يمشي بين الناس كما كان النبي صلى الله عليه و سلم وصحبه الكرام .
كلامك صحيح اخـووي ..
لقد لفت نظري من خلال اختلاطي بالمجتمع السعودي أن المأساة التي يعيشها الإسلام ليست مشكلة عدم عصرية الإسلام كما يردد العلمانيون كبرت كلمة تخرج من أفواههم , و لكن الحقيقة أن الإسلام قد ظلم بين أهله , فالدولة السعودية تعد الدولة الوحيدة الإسلامية من حيث المنظور الشرعي فقوانين الدولة و سياستها الأصل فيها كتاب الله و سنة رسوله و هي دولة نشأت على أصول دينية بحته تقاسم زعامتها الإمام محمد بن عبد الوهاب من حيث التنظير العقدي الشرعي و شاركه الإمام محمد بن سعود القيادة السياسية و العسكرية للدولة وتمر السنوات سريعا فما الذي جدث ؟ . تجد أن المشكلة الموجودة حاليا في المملكة بالرغم من كل الجهود المبذولة لنشر الثقافة الإسلامية في أوساط المجتمع المختلفة و ما تقوم به الجهات المعنية من دعوة غير المسلمين إلا الإسلام و قد أثمرت هذه الجهود نتائج رائعة لا يمكن أن ننكرها و مع كل هذا فالهوة بين ما كان عليه أسلافنا و ما نحن فيه الآن مازلت ضخمة و تفسير هذا يحتاج لدراسة عميقة لا تسعها أبدا تلك السطور البسيطة لكني سأحاول أن أًعرج عليها سريعا من واقع تجربتي الخاصة في السعودية كنموذج لدولة إسلامية من المفهوم الشرعي .
إن الإسلام يواجه جمع من التحديات لابد أن نقف عندها وقفة متأنية و خاصة أننا أبنائه و أولى هذه التحديات أن الإسلام ليس مجرد كلمات جذابة تحويها دفتي كتاب بل هو واقع حركي حي نابض و أي محاولة لإخراجه من إطاره هذا تشويه لصورته الحقيقة الفاعلة في دنيا الناس فببساطة شديدة الإسلام مجتمع بشري حي تستطيع العين أن تراه و الأيدي أن تلمسه و ليس مجرد فكرة فلسفية مجردة و لذلك فإن مشكلة الإسلام في عصرنا هذا و إن وجد في صورة دستور و دولة كما في السعودية و لكن تظل المشكلة في الأفراد الذين يطبقونه و لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أن الشعب السعودي لا يتخلق بأخلاق الإسلام و لكن ما أعنيه أنه ما تزال هناك هوة بين لب الإسلام و شكل المجتمع السعودي في الجملة فهو مجتمع قائم أصلا على العادات و التقاليد و هذا هو الفارق بين ما كان عليه شكل المجتمع الإسلامي و شكله الحالي. و لا أنكر تمسك قطاع عريض من المجتمع السعودي بتعاليم الإسلام الأصيلة و وجود قطاع من الملتزمين العاملين على نشر التعاليم الإسلامية بصورتها الصحيحة إلا أن الجماهير العريضة من الشعب تحتاج لخطاب دعوي أخر يعتمد على إيقاظ الجانب الروحي و يبتعد قليلا عن الطبيعة العلمية الموجودة في السعودية و أنت للآسف قد ترى أناس ظاهرهم الإلزام و لا يتورعون مثلا عن أكل حقوق الآخرين علما بأن من رحمة الله و عدله انه يصفح عن حقه – إن شاء – لكنه لا يصفح عن حقوق العباد بل يؤجلها ليوم الفصل .
وخذ عندك على سبيل المثال قضية اللحية و النقاب فهذا الأمر يعد في كثير من الدول العربية دليل على التزام صاحبه و هذه الأشياء تضع صاحبها غالبا في دائرة الالتزام لأنه اختارها بكامل إرادته و لم تفرض عليه أما في المملكة فالأمر مختلف قليلا فاللحية و النقاب عند الكثيرين عادات ليست عن قناعة تامة و هنا يبرز مكمن الخطورة الذي أردت أنوه عنه هنا فمنذ وطئت قدمي المملكة ذهلت لأشياء لمستها من أناس سمتها العام الالتزام و لكنك سرعان ما يتبين لك أن الأمر غير ذلك تماما و هذا ما جعل الكثيرين ممن لم يدرسوا هذه الظاهرة عن كثب يظنون بالالتزام و الملتزمين الظنونا و هذا عائد لعدم فهم طبيعة المجتمع السعودي و هو سائر دول الخليج تسيطر عليهم الطبيعة القبلية و التي جاء الإسلام لتذوبيها أصلا و أكرر مرة أخرى أن هذا ليس هجوم على الشعب السعودي الكريم فقد كنت ضيفا على هذا الشعب لمدة عامين كانوا من أسعد أيام حياتي و أشهد الله أن جميع زملائي في العمل تقريبا كانوا نعم الأصدقاء لي و لم أرى منهم إلا كل خير و لكني أحاول أن أنقل للقارئ الكريم جانب من طبيعة هذا الشعب خاصة و أنه يمثل صورة الدولة الإسلامية في واقعنا المعاصر و حتى لا أطيل عليكم فأني أحيل القارئ الكريم لكتاب العصبية القبلية من المنظور الإسلامي لد.خالد الجريسي فهو نافع للغاية في هذا الباب.
و هنا يتبادر للذهن سؤال هام مع علاقة ما سبق بذكرياتي في الغربة فأقول إننا في المستشفى كنا أشبه بالأمم المتحدة من حيث تعدد الجنسيات و الثقافات أضف لذلك و جود عدد ليس بقليل من غير المسلمين و منهم المتعصبين أيضا لذا فأنني كنت أحاول أن أعرف السبب في عدم إقبال هؤلاء على الإسلام بل و نفور بعضهم منه. نعم هناك الكثيرين خالطت بشاشة الإسلام قلوبهم فأقبلوا عليه لكن ظل عدد كبير على ضلاله و لم يكن السبب في هذا عدم اقتناعهم بالإسلام و لكنن الانفصام الذي رأوه بين ما نردده على مسامعهم ليل نهار حول عدالة الإسلام و أخلاقيته و بين تصرف عدد من الملتزمين ظاهريا . و عندما تحاورت مع هؤلاء عرفت أن السبب الرئيسي هو نظرتهم للمسلمين خاصة ممن يبدون في ظاهرهم ملتزمين و سوء الفهم هذا ناتج عن اعتقاد خاطئ هو أن الالتزام يساوي لحية أو نقاب و هذا لا يقلل من قيمة السمت الظاهر بل أني أرى أن هذا الهدي الظاهر هو صورة من صور التميز التي أراد الله سبحانه و تعالى أن يجعلها عنوان للأمة فأمتنا مميزة في كل شئ في ملبسها و مأكلها و مشربها و عبادتها في كل شئ بما تعنيه الكلمة حتى في نومها و دخول الخلاء فلا يفهم من كلامي التقليل من أهمية هذه الأشياء و إنما أقول أن هذه الأشياء ليست الدين بل هي من الدين و الفارق واضح للغاية و قد جاء في الحديث الذي صح عن الرسول صلى الله عليه و سلم ((إن الله لا ينظرإلى صوركم وأجسادكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) فجعل الرسول الكريم موطن النظر هو القلب و العمل و هذه هي الحقيقة.
أمر أخر في المقابل أنني قابلت هناك من يهونون من شأن الكثير من مفردات الدين الإسلامي بدعوى أنها ليست من الأصول أو أنها لا تناسب عصرنا و الأدهى من ذلك أن بعضهم أدعى أنها تنفر الغرب المتحضر - في رأيهم طبعا الشخصي – من الإسلام و هذا الرأي يحتاج لوقفات فهذه الدعوات المخلصة -حتى لا يظن احد أني أتهم أصحابها - قد هزمت و انهارت أمام ضغط واقعنا المعاصر و إضافة للهجمة الغربية الشرسة التي امتدت عبر القرون السابقة فأرادت أن توافق الغرب في بعض ما ذهبوا إليه بحجة مسايرة العصر فصارت تميع الدين و ما كانت أبدا هذه دعوة الله و لا طريق العاملين لدين الله بل هي شبهة شيطانية لاقت رواجا بين بعض أبناء الصحوة الإسلامية للآسف. إن هذا الدين وسط لا يجعل المظهر كل شئ و هو على ذلك لا يهون من أمر أي شئ فكل شئ له حكمته و مقتضاه لذا نادنا الله جميعا بهذا النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوافِي السِّلْمِ كَافَّةً ) و من رحمة الله بالبشرية أن جعل هذه الأمة وسطا لتشهد على الناس فتصلح دنياهم و آخرتهم و سوف اكتفي في السطور القادمة بقل مقتطفات لصاحب الظلال رحمه الله حول تفسير آية ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ))
(إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس, يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة, وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه. . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل . وهم يحسون هذا ويعلمونه . فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق . . يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى , فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة ! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة , على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة !
ويودون . ويودون . من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها . . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة , وفق موازينها الدقيقة , ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم . . هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين , ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق . فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف, وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش, مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء. .
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية , وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات , فرصة للكيد للدعوة , وتحويلها عن قواعدها , و إلقاء الشبهات حولها في النفوس . . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان , ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات , ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل , وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة . كما حدث في بعض تصرفات الرسول [ صلى الله عليه و سلم] وفي بعض اتجاهاته, مما بين الله فيه بيانا في القرآن. .
بذلك يبطل الله كيد الشيطان, ويحكم الله آياته, فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب )
(ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات - بعد الرسل - والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها . . تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها , ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصمونها !
ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة , ولا مع منهج الدعوة المستقيم . وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها . واجتهادا في تحقيق "مصلحة الدعوة " ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير . أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله . فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج ; إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق , وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله . ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف .
وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة . وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم . فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية , والتحرج البالغ , خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه "مصلحة الدعوة " . . إن كلمة "مصلحة الدعوة " يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات , لأنها مزلة , ومدخل للشيطان يأتيهم منه , حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص ! ولقد تتحول "مصلحة الدعوة " إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل ! . . إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها ! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب, سواء كان هذا الانحراف كثيرا ) ا.ه
كانت هذه وقفات سريعة مع هذا الدين و منهجه القويم الذي لا يأتيه الباطل من بين و لا من خلفه و هذا جزء من تجربتي هناك لم يكن هناك بد من المرور عليه.