هذا الدين (11)
لقد لفت نظري من خلال اختلاطي بالمجتمع السعودي أن المأساة التي يعيشها الإسلام ليست مشكلة عدم عصرية الإسلام كما يردد العلمانيون كبرت كلمة تخرج من أفواههم , و لكن الحقيقة أن الإسلام قد ظلم بين أهله , فالدولة السعودية تعد الدولة الوحيدة الإسلامية من حيث المنظور الشرعي فقوانين الدولة و سياستها الأصل فيها كتاب الله و سنة رسوله و هي دولة نشأت على أصول دينية بحته تقاسم زعامتها الإمام محمد بن عبد الوهاب من حيث التنظير العقدي الشرعي و شاركه الإمام محمد بن سعود القيادة السياسية و العسكرية للدولة وتمر السنوات سريعا فما الذي جدث ؟ . تجد أن المشكلة الموجودة حاليا في المملكة بالرغم من كل الجهود المبذولة لنشر الثقافة الإسلامية في أوساط المجتمع المختلفة و ما تقوم به الجهات المعنية من دعوة غير المسلمين إلا الإسلام و قد أثمرت هذه الجهود نتائج رائعة لا يمكن أن ننكرها و مع كل هذا فالهوة بين ما كان عليه أسلافنا و ما نحن فيه الآن مازلت ضخمة و تفسير هذا يحتاج لدراسة عميقة لا تسعها أبدا تلك السطور البسيطة لكني سأحاول أن أًعرج عليها سريعا من واقع تجربتي الخاصة في السعودية كنموذج لدولة إسلامية من المفهوم الشرعي .
إن الإسلام يواجه جمع من التحديات لابد أن نقف عندها وقفة متأنية و خاصة أننا أبنائه و أولى هذه التحديات أن الإسلام ليس مجرد كلمات جذابة تحويها دفتي كتاب بل هو واقع حركي حي نابض و أي محاولة لإخراجه من إطاره هذا تشويه لصورته الحقيقة الفاعلة في دنيا الناس فببساطة شديدة الإسلام مجتمع بشري حي تستطيع العين أن تراه و الأيدي أن تلمسه و ليس مجرد فكرة فلسفية مجردة و لذلك فإن مشكلة الإسلام في عصرنا هذا و إن وجد في صورة دستور و دولة كما في السعودية و لكن تظل المشكلة في الأفراد الذين يطبقونه و لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أن الشعب السعودي لا يتخلق بأخلاق الإسلام و لكن ما أعنيه أنه ما تزال هناك هوة بين لب الإسلام و شكل المجتمع السعودي في الجملة فهو مجتمع قائم أصلا على العادات و التقاليد و هذا هو الفارق بين ما كان عليه شكل المجتمع الإسلامي و شكله الحالي. و لا أنكر تمسك قطاع عريض من المجتمع السعودي بتعاليم الإسلام الأصيلة و وجود قطاع من الملتزمين العاملين على نشر التعاليم الإسلامية بصورتها الصحيحة إلا أن الجماهير العريضة من الشعب تحتاج لخطاب دعوي أخر يعتمد على إيقاظ الجانب الروحي و يبتعد قليلا عن الطبيعة العلمية الموجودة في السعودية و أنت للآسف قد ترى أناس ظاهرهم الإلزام و لا يتورعون مثلا عن أكل حقوق الآخرين علما بأن من رحمة الله و عدله انه يصفح عن حقه – إن شاء – لكنه لا يصفح عن حقوق العباد بل يؤجلها ليوم الفصل .
وخذ عندك على سبيل المثال قضية اللحية و النقاب فهذا الأمر يعد في كثير من الدول العربية دليل على التزام صاحبه و هذه الأشياء تضع صاحبها غالبا في دائرة الالتزام لأنه اختارها بكامل إرادته و لم تفرض عليه أما في المملكة فالأمر مختلف قليلا فاللحية و النقاب عند الكثيرين عادات ليست عن قناعة تامة و هنا يبرز مكمن الخطورة الذي أردت أنوه عنه هنا فمنذ وطئت قدمي المملكة ذهلت لأشياء لمستها من أناس سمتها العام الالتزام و لكنك سرعان ما يتبين لك أن الأمر غير ذلك تماما و هذا ما جعل الكثيرين ممن لم يدرسوا هذه الظاهرة عن كثب يظنون بالالتزام و الملتزمين الظنونا و هذا عائد لعدم فهم طبيعة المجتمع السعودي و هو سائر دول الخليج تسيطر عليهم الطبيعة القبلية و التي جاء الإسلام لتذوبيها أصلا و أكرر مرة أخرى أن هذا ليس هجوم على الشعب السعودي الكريم فقد كنت ضيفا على هذا الشعب لمدة عامين كانوا من أسعد أيام حياتي و أشهد الله أن جميع زملائي في العمل تقريبا كانوا نعم الأصدقاء لي و لم أرى منهم إلا كل خير و لكني أحاول أن أنقل للقارئ الكريم جانب من طبيعة هذا الشعب خاصة و أنه يمثل صورة الدولة الإسلامية في واقعنا المعاصر و حتى لا أطيل عليكم فأني أحيل القارئ الكريم لكتاب العصبية القبلية من المنظور الإسلامي لد.خالد الجريسي فهو نافع للغاية في هذا الباب.
و هنا يتبادر للذهن سؤال هام مع علاقة ما سبق بذكرياتي في الغربة فأقول إننا في المستشفى كنا أشبه بالأمم المتحدة من حيث تعدد الجنسيات و الثقافات أضف لذلك و جود عدد ليس بقليل من غير المسلمين و منهم المتعصبين أيضا لذا فأنني كنت أحاول أن أعرف السبب في عدم إقبال هؤلاء على الإسلام بل و نفور بعضهم منه. نعم هناك الكثيرين خالطت بشاشة الإسلام قلوبهم فأقبلوا عليه لكن ظل عدد كبير على ضلاله و لم يكن السبب في هذا عدم اقتناعهم بالإسلام و لكنن الانفصام الذي رأوه بين ما نردده على مسامعهم ليل نهار حول عدالة الإسلام و أخلاقيته و بين تصرف عدد من الملتزمين ظاهريا . و عندما تحاورت مع هؤلاء عرفت أن السبب الرئيسي هو نظرتهم للمسلمين خاصة ممن يبدون في ظاهرهم ملتزمين و سوء الفهم هذا ناتج عن اعتقاد خاطئ هو أن الالتزام يساوي لحية أو نقاب و هذا لا يقلل من قيمة السمت الظاهر بل أني أرى أن هذا الهدي الظاهر هو صورة من صور التميز التي أراد الله سبحانه و تعالى أن يجعلها عنوان للأمة فأمتنا مميزة في كل شئ في ملبسها و مأكلها و مشربها و عبادتها في كل شئ بما تعنيه الكلمة حتى في نومها و دخول الخلاء فلا يفهم من كلامي التقليل من أهمية هذه الأشياء و إنما أقول أن هذه الأشياء ليست الدين بل هي من الدين و الفارق واضح للغاية و قد جاء في الحديث الذي صح عن الرسول صلى الله عليه و سلم ((إن الله لا ينظرإلى صوركم وأجسادكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) فجعل الرسول الكريم موطن النظر هو القلب و العمل و هذه هي الحقيقة.
أمر أخر في المقابل أنني قابلت هناك من يهونون من شأن الكثير من مفردات الدين الإسلامي بدعوى أنها ليست من الأصول أو أنها لا تناسب عصرنا و الأدهى من ذلك أن بعضهم أدعى أنها تنفر الغرب المتحضر - في رأيهم طبعا الشخصي – من الإسلام و هذا الرأي يحتاج لوقفات فهذه الدعوات المخلصة -حتى لا يظن احد أني أتهم أصحابها - قد هزمت و انهارت أمام ضغط واقعنا المعاصر و إضافة للهجمة الغربية الشرسة التي امتدت عبر القرون السابقة فأرادت أن توافق الغرب في بعض ما ذهبوا إليه بحجة مسايرة العصر فصارت تميع الدين و ما كانت أبدا هذه دعوة الله و لا طريق العاملين لدين الله بل هي شبهة شيطانية لاقت رواجا بين بعض أبناء الصحوة الإسلامية للآسف. إن هذا الدين وسط لا يجعل المظهر كل شئ و هو على ذلك لا يهون من أمر أي شئ فكل شئ له حكمته و مقتضاه لذا نادنا الله جميعا بهذا النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوافِي السِّلْمِ كَافَّةً ) و من رحمة الله بالبشرية أن جعل هذه الأمة وسطا لتشهد على الناس فتصلح دنياهم و آخرتهم و سوف اكتفي في السطور القادمة بقل مقتطفات لصاحب الظلال رحمه الله حول تفسير آية ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ))
(إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس, يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة, وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه. . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل . وهم يحسون هذا ويعلمونه . فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق . . يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى , فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة ! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة , على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة !
ويودون . ويودون . من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها . . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة , وفق موازينها الدقيقة , ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم . . هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين , ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق . فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف, وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش, مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء. .
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية , وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات , فرصة للكيد للدعوة , وتحويلها عن قواعدها , و إلقاء الشبهات حولها في النفوس . . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان , ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات , ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل , وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة . كما حدث في بعض تصرفات الرسول [ صلى الله عليه و سلم] وفي بعض اتجاهاته, مما بين الله فيه بيانا في القرآن. .
بذلك يبطل الله كيد الشيطان, ويحكم الله آياته, فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب )
(ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات - بعد الرسل - والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها . . تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها , ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصمونها !
ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة , ولا مع منهج الدعوة المستقيم . وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها . واجتهادا في تحقيق "مصلحة الدعوة " ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير . أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله . فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج ; إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق , وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله . ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف .
وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة . وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم . فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية , والتحرج البالغ , خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه "مصلحة الدعوة " . . إن كلمة "مصلحة الدعوة " يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات , لأنها مزلة , ومدخل للشيطان يأتيهم منه , حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص ! ولقد تتحول "مصلحة الدعوة " إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل ! . . إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها ! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب, سواء كان هذا الانحراف كثيرا ) ا.ه
كانت هذه وقفات سريعة مع هذا الدين و منهجه القويم الذي لا يأتيه الباطل من بين و لا من خلفه و هذا جزء من تجربتي هناك لم يكن هناك بد من المرور عليه.